-A +A
نجيب الخنيزي
لم تجر دراسات وأبحاث منهجية وميدانية عن نهضة اليابان وتاريخها الحديث، وظل كل ما يصلنا ويعرفنا بذلك البلد يأتينا عن طريق المرجعية الغربية، والذي يعكس في الغالب رؤية ونظرة «المركزية الغربية» التي تتسربل «بالاستشراق» أحياناً وبالرؤية والممارسة النابعة من روحية التنافس والتزاحم بين مراكز النظام العالمي (توازن احتكار القوة) أحياناً أخرى، وقبل التطرق إلى تحديد مفهوم الميجي اشن والعوامل التي ساعدت على انبثاق وتشكل اليابان المعاصرة لابد من التوقف عند مسألة هامة وضرورية.. وهي انه قد سنحت للعرب فرصة تاريخية مماثلة وفي نفس اللحظة التاريخية التي دشن فيها اليابانيون نهضتهم في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتلك الفرصة التاريخية تمثلت في فترة حكم محمد علي لمصر وسوريا، ومع تشابه الظروف والمقدمات للبدايات في التجربتين إلا أن النتائج التي تمخضت عنهما كانتا مختلفتين تماماً، ففيما واصلت اليابان نهضتها وتبوأت مكانتها الاقتصادية والسياسية والحضارية الرفيعة في العالم، حدث تراجع وتدهور وانتكاس للمشروع العربي النهضوي، وأصبح العرب أمة مشتتة ومجزأة تنخرها التبعية والتخلف والفقر ويسودها الاستبداد والعنف والإرهاب والاحتراب الداخلي والسؤال الذي يطل هنا: لماذا نجح اليابانيون وتقدموا وتطوروا وأصبحوا قوة فاعلة في التاريخ، بينما تخلف العرب وتراجعوا وأصبحوا أمة مهددة بأن تكون خارج التاريخ، لقد استطاعت اليابان الحفاظ بامتياز على مقوماتها وتقاليدها وهويتها الحضارية والثقافية الخاصة في الوقت الذي انكبت تنهل فيه من الحضارة والمعارف والثقافة والتكنولوجية الغربية بندية وبدون عقدة خوف أو نقص، وحلت بذلك الإشكالية (التي لازالت مزمنة عند العرب) المرتبطة بالأصالة والمعاصرة وذلك من خلال تحديث أصالتها وتأصيل حداثتها، الدعوة إلى دراسة التجربة اليابانية على الرغم من كون اليابان بلداً شرقياً لا ينتمي تاريخياً وحضارياً إلى الغرب ومراكزه الرئيسية لا تعني اطلاقاً تعميم ومحاكاة التجربة اليابانية. فتلك التجربة لها خصوصيتها وأصالتها وفرادتها المستمدة من بيئتها وتقاليدها وإرثها الاجتماعي والثقافي، لكن ذلك لا يلغي ضرورة الاستفادة منها ومن دروسها العامة والتي يأتي في مقدمتها: تحقيق أية تنمية وتطور اقتصادي وتكنولوجي وعلمي وثقافي لا يتأتى إلا عن طريق استراتيجية التنمية الشاملة المعتمدة على النفس والمتمحورة على الذات (قدرات وإمكانيات وموارد) في المقام الأول ثم الاستفادة من الإمكانيات والعوامل الخارجية المساعدة المتاحة، تطلق عبارة الميجي اشن (meigi ishin) باللغة اليابانية من ناحية الشكل على العملية السياسية التي شهدتها اليابان في الفترة الواقعة بين (1867- 1868) والتي بموجبها استعاد الإمبراطور ميجي لمركزه الإمبراطوري بعد سقوط حكم «طوكو جاوا» والحكام العسكريين الذين كانوا يساندونه «الشوجان» أما من ناحية المضمون فهي تشير إلى العملية السياسية- الاقتصادية- الاجتماعية- الثقافية العميقة التي تم بموجبها إنهاء التفكك الإقطاعي وإحلال نظام مركزي واحد في البلاد والبدء بفك العزلة الاختيارية لليابان والانفتاح على العالم الخارجي، وتحقيق التنمية الرأسمالية بأمل اللحاق بالغرب الصناعي، وبذا فهي ثورة أصيلة مثل باقي الثورات الكبرى التي عرفتها البشرية منذ أواسط القرن الثامن عشر مثل ثورة الاستقلال الأمريكي والثورة الفرنسية والثورة الروسية والثورة الصينية والثورة الإيرانية، غير انها ثورة جرت من فوق وبفعل إرادة القصر، وهي نتاج اختمار جملة من العوامل الداخلية والخارجية التي شكلت الأرضية لاندلاع تلك الثورة التي لم ترق فيها دماء غزيرة ولم تبد فيها الطبقات القديمة مقاومة ضارية بل التفت حول الإمبراطور الشاب الذي أصبح رمزاً لوحدة واستقلال اليابان المعارضون والمؤيدون على حد سواء. وقد أشار الباحث الياباني كوايا اتاكيو إلى أن «إصلاحات الميجي كانت ثورة برجوازية لدولة غير متقدمة وإنه يجب أن تنظر إليها على انها انجاز عظيم» وفي هذا الصدد كتب توماس سميث «إن السنوات العشر التي شهدتها الميجي اشن تمثل تغيرا اجتماعيا في اليابان يفوق التغير الذي أحدثته الثورة الفرنسية (1789) وبموجب هذه الثورة استطاعت اليابان تحقيق تنميتها الرأسمالية في غضون اربعين عاماً فقط فيما احتاجت البلدان الأوروبية إلى بضعة قرون من الزمن لتحقيق ذلك مما جعلها تنجح في مسايرة طابع العصر بسرعة لم تعهدها دولة أخرى في التاريخ وقد خطت حكومة الميجي خطوات عميقة باتجاه انهاء التفتت الإقطاعي وقيام الدولة المركزية حيث ألغت نظام الإقطاعات البالغ عددها 300 إقطاعية واستبدلتها بنظام الولايات (1870) وتم احتواء الحرب الأهلية التي عرفت باسم «بوشن» التي نظمها الإقطاعيون المنهزمون الذين رفضوا الخضوع لسلطة الإمبراطور المركزية، وأرست دعائم الانفتاح السياسي عبر سن دستور للبلاد (1889) وافتتاح البرلمان (الدايت) عام 1890 وألغت نظام التمييز بين الطبقات والفئات المختلفة وسمحت بحرية التنقل والعمل والملكية لجميع الناس، ودشنت نظاماً وطنياً للتعليم الإجباري (1872) وقد بلغت نسبة الطلاب الملتحقين بالفصول الأساسية 90% غداة الحرب اليابانية/ الروسية (1904- 1905) كما سنت نظام التجنيد الإجباري في بداية التسعينات من القرن التاسع عشر وعملت على إنشاء قوة عسكرية حديثة ضاربة، كما سعت إلى تحرير العقل الياباني من هيمنة النظام والفكر الشمولي وإطلاق حرية الفرد والتحرر من التقاليد البالية رغم انه لم يتحقق بصورة تامة إلا عقب هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية، لقد تداخلت عوامل مختلفة في إنجاح النهضة اليابانية الحديثة ومن هذه العوامل:
- الظروف الجغرافية: التي منعت الغرب من السيطرة على اليابان نظراً لبعدها عن البر الآسيوي الذي يفصلها عنه خليج كوريا، فكان من المتعذر على الغرب الوصول إلى اليابان واحتلالها خصوصاً وأنه منهمك في إحكام سيطرته على الصين والهند وبقية آسيا الزاخرة بالثروات مقارنة باليابان التي تفتقد الثروات والموارد والمواد الخام التي تثير شهية المستعمرين الغربيين فكان من اليسير على اليابان اتباع سياسة العزلة. وبذا فهي من الدول القليلة التي لم تتعرض للغزو من جانب شعب آخر، كما لم تتعرض للاستعمار الأجنبي قط وبذا تختلف ثورة الميجي عن الثورات الوطنية التي اندلعت في بلدان المستعمرات فهي ثورة داخلية وثقافية في المقام الأول، وجاءت رداً على محاولات الاختراق الغربية لحدودها وسيادتها واستجابة للتحديات الحضارية والثقافية للغرب الميهمن آنذاك.